.النَّوْعُ الْخَامِسُ: الصِّفَةُ:
وَتَرِدُ لِأَسْبَابٍ:أَحَدُهَا: التَّخْصِيصُ فِي النَّكِرَةِ، نَحْو:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النِّسَاء: 92].الثَّانِي: التَّوْضِيحُ فِي الْمَعْرِفَةِ؛ أَيْ: زِيَادَةُ الْبَيَانِ، نَحْو:
{وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ} [الْأَعْرَاف: 158].الثَّالِثُ: الْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ، وَمِنْهُ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى، نَحْو:
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الْفَاتِحَة: 1- 4]،
{الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الْحَشْر: 24].وَمِنْهُ:
{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [الْمَائِدَة: 44]، فَهَذَا الْوَصْفُ لِلْمَدْحِ وَإِظْهَارِ شَرَفِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّعْرِيضِ بِالْيَهُودِ، وَأَنَّهُمْ بُعَدَاءُ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْهَا. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.الرَّابِعُ: الذَّمُّ، نَحْو:
{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النَّحْل: 98].الْخَامِسُ: التَّأْكِيدُ لِرَفْعِ الْإِيهَامِ، نَحْو:
{لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النَّحْل: 51]، فَإِنَّ
{إِلَهَيْنِ} لِلتَّثْنِيَةِ، فَـ:
{اثْنَيْنِ} بَعْدَهُ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ، وَلِإِفَادَةِ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ إِلَهَيْنِ إِنَّمَا هُوَ لِمَحْضِ كَوْنِهِمَا اثْنَيْنِ فَقَطْ، لَا لِمَعْنًى آخَرَ مِنْ كَوْنِهِمَا عَاجِزَيْنِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الْوِحْدَةَ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا النَّوْعِيَّةُ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّمَا نَحْنُ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ»، وَتُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا نَفْيُ الْعِدَّةِ، فَالتَّثْنِيَةُ بِاعْتِبَارِهَا، فَلَوْ قِيلَ: لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ فَقَطْ لَتُوِهِّمَ أَنَّهُ نَهْيٌ عَنِ اتِّخَاذِ جِنْسَيْنِ آلِهَةً، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ عَدَدٌ آلِهَةً، وَلِهَذَا أُكِّدَ بِالْوَاحِدَةِ قَوْلُهُ:
{إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الْأَنْعَام: 19].وَمِثْلُهُ:
{فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 27]، عَلَى قِرَاءَةِ تَنْوِينِ
{كَلٍّ}. وَقَوْلُهُ:
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الْحَاقَّة: 13]، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ تَعَدُّدِ النَّفْخَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ قَدْ تَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ بِدَلِيل:
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إِبْرَاهِيمَ: 34].وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} [النِّسَاء: 176]، فَإِنَّ لَفْظَ كَانَتَا تُفِيدُ التَّثْنِيَةَ، فَتَفْسِيرُهُ بِاثْنَتَيْنِ لَمْ يُفِدْ زِيَادَةً عَلَيْهِ.وَقَدْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ وَالْفَارِسِيُّ بِأَنَّهُ أَفَادَ الْعَدَدَ الْمَحْضَ مُجَرَّدًا عَنِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ كَانَتَا صَغِيرَتَيْنِ أَوْ كَبِيرَتَيْنِ أَوْ صَالِحَتَيْنِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ، فَلَمَّا قَالَ:
{اثْنَتَيْنِ} أَفْهَمَ أَنَّ فَرْضَ الثِّنْتَيْنِ تَعَلَّقَ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِمَا ثِنْتَيْنِ فَقَطْ، وَهِيَ فَائِدَةٌ لَا تَحْصُلُ مِنْ ضَمِيرِ الْمُثَنَّى.وَقِيلَ: أَرَادَ: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا) فَعَبَّرَ بِالْأَدْنَى عَنْهُ وَعَمَّا فَوْقَهُ اكْتِفَاءً، وَنَظِيرُهُ:
{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} [الْبَقَرَة: 282]، وَالْأَحْسَنُ فِيهِ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الشَّهِيدَيْنِ الْمُطْلَقَيْنِ.وَمِنَ الصِّفَاتِ الْمُؤَكِّدَةِ قَوْلُهُ:
{وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الْأَنْعَام: 38]، فَقَوْلُهُ يَطِيرُ: لِتَأْكِيدِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّائِرِ حَقِيقَتُهُ، فَقَدْ يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: بِجَنَاحَيْهِ لِتَأْكِيدِ حَقِيقَةِ الطَّيَرَانِ؛ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى شِدَّةِ الْعَدْوِ وَالْإِسْرَاعِ فِي الْمَشْيِ، وَنَظِيرُهُ:
{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ} [الْفَتْح: 11]؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى غَيْرِ اللِّسَانِيِّ بِدَلِيل:
{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [الْمُجَادَلَة: 8]، وَكَذَا
{وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الْحَجّ: 46]؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ قَدْ يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْعَيْنِ، كَمَا أُطْلِقَتِ الْعَيْنُ مَجَازًا عَلَى الْقَلْبِ فِي قَوْلِه:
{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} [الْكَهْف: 101].
.قَاعِدَةٌ: الصِّفَةُ الْعَامَّةُ لَا تَأْتِي بَعْدَ الْخَاصَّة:
لَا يُقَالُ: رَجُلٌ فَصِيحٌ مُتَكَلِّمٌ، بَلْ مُتَكَلِّمٌ فَصِيحٌ، وَأُشْكِلَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي إِسْمَاعِيلَ:
{وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مَرْيَمَ: 51]، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ حَالٌ لَا صِفَةٌ؛ أَيْ: مُرْسَلًا فِي حَالِ نُبُوَّتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي نَوْعِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَمْثِلَةٌ مِنْ هَذِهِ.
.قَاعِدَةٌ: إِذَا وَقَعَتِ الصِّفَةُ بَعْدَ مُتَضَايِفَيْنِ أَوَّلُهُمَا عَدَدٌ جَازَ إِجْرَاؤُهُمَا عَلَى الْمُضَافِ وَعَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ:
فَمِنَ الْأَوَّل:
{سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [الْمُلْك: 3]، وَمِنَ الثَّانِي:
{سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يُوسُفَ: 43].فَائِدَةٌ:إِذَا تَكَرَّرَتِ النُّعُوتُ لِوَاحِدٍ فَالْأَحْسَنُ- إِنْ تَبَاعَدَ مَعْنَى الصِّفَاتِ- الْعَطْفُ، نَحْو:
{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الْحَدِيد: 3]، وَإِلَّا تَرَكَهُ، نَحْو:
{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [الْقَلَم: 10- 13].فَائِدَةٌ: قَطْعُ النُّعُوتِ فِي مَقَامِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ أَبْلَغُ مِنْ إِجْرَائِهَا.قَالَ الْفَارِسِيُّ: إِذَا ذُكِرَتِ الصِّفَاتُ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُخَالَفَ فِي إِعْرَابِهَا؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي الْإِطْنَابَ، فَإِذَا خُولِفَ فِي الْإِعْرَابِ كَانَ الْمَقْصُودُ أَكْمَلَ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ تَتَنَوَّعُ وَتَتَفَنَّنُ، وَعِنْدَ الِاتِّحَادِ تَكُونُ نَوْعًا وَاحِدًا.مِثَالُهُ فِي الْمَدْح:
{وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [النِّسَاء: 162]،
{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إِلَى قَوْلِه:
{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} [الْبَقَرَة: 177].وَقُرِئَ شَاذًّا:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بِرَفْعِ (رَبّ) وَنَصْبِهِ.وَمِثَالُهُ فِي الذَّمّ:
{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [الْمَسَد: 4].
.النَّوْعُ السَّادِسُ: الْبَدَلُ:
وَالْقَصْدُ بِهِ الْإِيضَاحُ بِهِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ. وَفَائِدَتُهُ الْبَيَانُ وَالتَّأْكِيدُ.أَمَّا الْأَوَّلُ فَوَاضِحٌ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: رَأَيْتُ زَيْدًا أَخَاكَ، بَيَّنْتَ أَنَّكَ تُرِيدُ بِزَيْدٍ الْأَخَ لَا غَيْرَ.أَمَّا التَّأْكِيدُ فَلِأَنَّهُ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، فَكَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَتَيْنِ، وَلِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ: إِمَّا بِالْمُطَابَقَةِ فِي بَدَلِ الْكُلِّ، وَإِمَّا بِالتَّضْمِينِ فِي بَدَلِ الْبَعْضِ، أَوْ بِالِالْتِزَامِ فِي بَدَلِ الِاشْتِمَالِ.مِثَالُ الْأَوَّل:
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الْفَاتِحَة: 6، 7]،
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشُّورَى: 52، 53]،
{لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [الْعَلَق: 15- 16]وَمِثَالُ الثَّانِي:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آلِ عِمْرَانَ: 97]،
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الْبَقَرَة: 251].وَمِثَالُ الثَّالِث:
{وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الْكَهْف: 63]،
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [الْبَقَرَة: 217]،
{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ} [الْبُرُوج: 4، 5]،
{لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ} [الزُّخْرُف: 33].وَزَادَ بَعْضُهُمْ بَدَلَ الْكُلِّ مِنَ الْبَعْضِ، وَقَدْ وَجَدْتُ لَهُ مِثَالًا فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
{يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ} [مَرْيَمَ: 60، 61]، فَجَنَّاتُ عَدْنٍ بَدَلٌ مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ بَعْضٌ، وَفَائِدَتُهُ تَقْرِيرُ أَنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ لَا جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ.قَالَ ابْنُ السَّيِّد: وَلَيْسَ كُلُّ بَذْلٍ يُقْصَدُ بِهِ رَفَعُ الْإِشْكَالِ الَّذِي يَعْرِضُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ، بَلْ مِنَ الْبَدَلِ مَا يُرَادُ بِهِ التَّأْكِيدُ، وَإِنْ كَانَ مَا قَبْلَهُ غَنِيًّا عَنْهُ كَقَوْلِه:
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشُّورَى: 52، 53]، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُذْكَرِ الصِّرَاطُ الثَّانِي لَمْ يَشُكَّ أَحَدٌ فِي أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ صِرَاطُ اللَّهِ وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ مِنَ الْبَدَلِ مَا الْغَرَضُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ. انْتَهَى.وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَام:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الْأَنْعَام: 74]، قَالَ: وَلَا بَيَانَ فِيهِ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَلْتَبِسُ بِغَيْرِهِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْجَدِّ، فَأُبْدِلَ لِبَيَانِ إِرَادَةِ الْأَبِ حَقِيقَةً.
.النَّوْعُ السَّابِعُ: عَطْفُ الْبَيَانِ:
وَهُوَ كَالصِّفَةِ فِي الْإِيضَاحِ، لَكِنْ يُفَارِقُهَا فِي أَنَّهُ وُضِعَ لِيَدُلَّ عَلَى الْإِيضَاحِ بِاسْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ بِخِلَافِهَا، فَإِنَّهَا وُضِعَتْ لِتَدُلَّ عَلَى مَعْنًى حَاصِلٍ فِي مَتْبُوعِهَا.وَفَرَّقَ ابْنُ كَيْسَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَدَل: بِأَنَّ الْبَدَلَ هُوَ الْمَقْصُودُ وَكَأَنَّكَ قَرَّرْتُهُ فِي مَوْضِعِ الْمُبَدَلِ مِنْهُ، وَعَطْفُ الْبَيَانِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ كُلٌّ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ.وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ الْكَافِيَة: عَطْفُ الْبَيَانِ يَجْرِي مَجْرَى النَّعْتِ فِي تَكْمِيلِ مَتْبُوعِهِ، وَيُفَارِقُهُ فِي أَنَّ تَكْمِيلَهُ مَتْبُوعَهُ بِشَرْحٍ وَتَبْيِينٍ لَا بِدِلَالَةٍ عَلَى مَعْنًى فِي الْمَتْبُوعِ أَوْ سَبَبِيَّةٍ، وَمَجْرَى التَّأْكِيدِ فِي تَقْوِيَةِ دَلَالَتِهِ، وَيُفَارِقُهُ فِي أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ تَوَهُّمَ مَجَازٍ، وَمَجْرَى الْبَدَلِ فِي صَلَاحِيَتِهِ لِلِاسْتِقْلَالِ، وَيُفَارِقُهُ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَنَوِيِّ الِاطِّرَاحِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِه:
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آلِ عِمْرَانَ: 97]،
{مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النُّور: 35].وَقَدْ يَأْتِي لِمُجَرَّدِ الْمَدْحِ بِلَا إِيضَاحِ، وَمِنْهُ:
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [الْمَائِدَة: 97]، فَـ:
{الْبَيْتَ الْحَرَامَ} عَطْفُ بَيَانٍ لِلْمَدْحِ لَا لِلْإِيضَاحِ.
.النَّوْعُ الثَّامِنُ: عَطْفُ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ:
وَالْقَصْدُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ أَيْضًا، وَجُعِلَ مِنْهُ:
{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي} [يُوسُفَ: 86]،
{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 146]،
{فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طَه: 112]،
{لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طَه: 77]،
{لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طَه: 107]، قَالَ الْخَلِيلُ: الْعِوَجُ وَالْأَمْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
{سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التَّوْبَة: 78، وَالزُّخْرُف: 80]،
{شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [الْمَائِدَة: 48]،
{لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} [الْمُدَّثِّر: 28]،
{إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [الْبَقَرَة: 171]،
{أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} [الْأَحْزَاب: 67]،
{لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فَاطِرٍ: 35]، فَإِنَّ
{نصَبٌ} كَلَغَبٍ وَزْنًا وَمَعْنًى.
{صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [الْبَقَرَة: 157]،
{عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [الْمُرْسَلَات: 6]، قَالَ ثَعْلَبٌ: هُمَا بِمَعْنًى.وَأَنْكَرَ الْمُبَرِّدُ وُجُودَ هَذَا النَّوْعِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَوَّلَ مَا سَبَقَ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَخْلَصُ فِي هَذَا أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّ مَجْمُوعَ الْمُتَرَادِفَيْنِ يُحَصِّلُ مَعْنًى لَا يُوجَدُ عِنْدَ انْفِرَادِهِمَا، فَإِنَّ التَّرْكِيبَ يُحْدِثُ مَعْنًى زَائِدًا، وَإِذَا كَانَتْ كَثْرَةُ الْحُرُوفِ تُفِيدُ زِيَادَةَ الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الْأَلْفَاظِ.
.النَّوْعُ التَّاسِعُ: عَطْفُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ:
وَفَائِدَتُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى فَضْلِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ جِنْسِ الْعَامِّ، تَنْزِيلًا لِلتَّغَايُرِ فِي الْوَصْفِ مَنْزِلَةَ التَّغَايُرِ فِي الذَّاتِ.وَحَكَى أَبُو حَيَّانَ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هَذَا الْعَطْفُ يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ كَأَنَّهُ جُرِّدَ مِنَ الْجُمْلَةِ، وَأُفْرِدَ بِالذِّكْرِ تَفْضِيلًا.وَمِنْ أَمْثِلَتِه:
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [الْبَقَرَة: 238]،
{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [الْبَقَرَة: 98]،
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آلِ عِمْرَانَ: 104]،
{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الْأَعْرَاف: 104]، فَإِنَّ إِقَامَتَهَا مِنْ جُمْلَةِ التَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ إِظْهَارًا لِرُتْبَتِهَا لِكَوْنِهَا عِمَادَ الدِّينِ، وَخُصَّ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ بِالذِّكْرِ رَدًّا عَلَى الْيَهُودِ فِي دَعْوَى عَدَاوَتِهِ، وَضُمَّ إِلَيْهِ مِيكَائِيلُ لِأَنَّهُ مَلَكُ الرِّزْقِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ الْأَجْسَادِ، كَمَا أَنَّ جِبْرِيلَ مَلَكُ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ.وَقِيلَ: إِنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَمَّا كَانَا أَمِيرَيِ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَدْخُلَا فِي لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ أَوَّلًا، كَمَا أَنَّ الْأَمِيرَ لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْجُنْدِ. حَكَاهُ الْكَرْمَانِيُّ فِي الْعَجَائِبِ.وَمِنْ ذَلِكَ:
{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النِّسَاء: 110]،
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الْأَنْعَام: 93]، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْوَاوِ، كَمَا هُوَ رَأْيُ ابْنُ مَالِكٍ فِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ.وَخُصَّ الْمَعْطُوفُ فِي الثَّانِيَةِ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى زِيَادَةِ قُبْحِهِ.تَنْبِيهٌ: الْمُرَادُ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ هُنَا مَا كَانَ فِيهِ الْأَوَّلُ شَامِلًا لِلثَّانِي لَا الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ فِي الْأُصُولِ.
.النَّوْعُ الْعَاشِرُ: عَطْفُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ:
وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ وَجُودَهُ فَأَخْطَأَ، وَالْفَائِدَةُ فِيهِ وَاضِحَةٌ، وَهُوَ التَّعْمِيمُ، وَأُفْرِدَ الْأَوَّلُ بِالذِّكْرِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ.وَمِنْ أَمْثِلَتِه:
{إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} [الْأَنْعَام: 93]، وَالنُّسُكُ الْعِبَادَةُ، فَهُوَ أَعَمُّ.
{آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الْحِجْر: 87]،
{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نُوحٍ: 28]،
{فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التَّحْرِيم: 4]، جَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ:
{وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يُونُسَ: 31]، بَعْدَ قَوْلِه:
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ} [يُونُسَ: 31].
.النَّوْعُ الْحَادِي عَشَرَ: الْإِيضَاحُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ:
قَالَ أَهْلُ الْبَيَان: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُبْهِمَ ثُمَّ تُوَضِّحَ فَإِنَّكَ تُطْنِبُ.وَفَائِدَتُهُ: إِمَّا رُؤْيَةُ الْمَعْنَى فِي صُورَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْن: الْإِبْهَامِ وَالْإِيضَاحِ، أَوْ لِتَمَكُّنِ الْمَعْنَى فِي النَّفْسِ تَمَكُّنًا زَائِدًا لِوُقُوعِهِ بَعْدَ الطَّلَبِ، فَإِنَّهُ أَعَزُّ مِنَ الْمُنْسَاقِ بِلَا تَعَبٍ، أَوْ لِتَكْمُلَ لَذَّةُ الْعِلْمِ بِهِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ إِذَا عُلِمَ مِنْ وَجْهٍ مَا، تَشَوَّقَتِ النَّفْسُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ بَاقِي وُجُوهِهِ وَتَأَلَّمَتْ، فَإِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ مِنْ بَقِيَّةِ الْوُجُوهِ كَانَتْ لَذَّتُهُ أَشَدَّ مِنْ عِلْمِهِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً.وَمِنْ أَمْثِلَتِه:
{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طَه: 25]، فَإِنَّ (اشْرَحْ) يُفِيدُ طَلَبَ شَرْحِ شَيْءٍ مَا، وَ(صَدْرِي) يُفِيدُ تَفْسِيرَهُ وَبَيَانَهُ. وَكَذَلِكَ:
{وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طَه: 26]، وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي التَّأْكِيدَ لِلْإِرْسَالِ الْمُؤْذِنِ بِتَلَقِّي الشَّدَائِدِ، وَكَذَلِكَ:
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشَّرْح: 1]، فَإِنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي التَّأْكِيدَ؛ لِأَنَّهُ مَقَامُ امْتِنَانٍ وَتَفْخِيمٍ. وَكَذَا:
{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الْحِجْر: 66].وَمِنْهُ التَّفْصِيلُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، نَحْو:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} إِلَى قَوْلِه:
{مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التَّوْبَة: 36]، وَعَكْسُهُ كَقَوْلِه:
{ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [الْبَقَرَة: 196]، أُعِيدَ ذِكْرُ الْعَشَرَةِ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ الْوَاوَ فِي (وَسَبْعَةٍ) بِمَعْنَى (أَوْ) فَتَكُونُ الثَّلَاثَةُ دَاخِلَةً فِيهَا، كَمَا فِي قَوْلِه:
{خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ}، ثُمَّ قَالَ:
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فُصِّلَتْ: 9، 10]، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا الْيَوْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَوَّلًا، وَلَيْسَتْ أَرْبَعَةً غَيْرَهُمَا، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَجَزَمَ بِهِ الزَّمْلَكَانِيُّ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ.قَالَ: وَنَظِيرُهُ:
{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الْأَعْرَاف: 142]، فَإِنَّهُ رَافِعٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعَشَرَةُ مِنْ غَيْرِ مُوَاعَدَةٍ.قَالَ ابْنُ عَسْكَرٍ: وَفَائِدَةُ الْوَعْدِ بِثَلَاثِينَ أَوَّلًا ثُمَّ بِعَشْرٍ لِيَتَجَدَّدَ لَهُ قُرْبُ انْقِضَاءِ الْمُوَاعِدَةِ، وَيَكُونُ فِيهِ مُتَأَهِّبًا، مُجْتَمِعَ الرَّأْيِ، حَاضِرَ الذِّهْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَعَدَ بِالْأَرْبَعِينَ أَوَّلًا كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً، فَلَمَّا فُصِلَتِ اسْتَشْعَرَتِ النَّفْسُ قُرْبَ التَّمَامِ، وَتَجَدَّدَ بِذَلِكَ عَزْمٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ.وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ فِي الْعَجَائِب: فِي قَوْلِه:
{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} ثَمَانِيَةُ أَجْوِبَةٍ: جَوَابَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَجَوَابٌ مِنَ الْفِقْهِ، وَجَوَابٌ مِنَ النَّحْوِ، وَجَوَابٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَجَوَابٌ مِنَ الْمَعْنَى، وَجَوَابَانِ مِنَ الْحِسَابِ، وَقَدْ سُقْتُهَا فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ.
.النَّوْعُ الثَّانِي عَشَرَ: التَّفْسِيرُ:
قَالَ أَهْلُ الْبَيَان: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ لَبْسٌ وَخَفَاءٌ فَيُؤْتَى بِمَا يُزِيلُهُ وَيُفَسِّرُهُ.وَمِنْ أَمْثِلَتِه:
{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [الْمَعَارِج: 19- 21]، فَقَوْلُهُ: (إِذَا مَسَّهُ) إِلَخْ.. تَفْسِيرٌ لِلْهَلُوعِ، كَمَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُ.
{الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [الْبَقَرَة: 255]، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى: قَوْلُهُ:
{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} تَفْسِيرٌ لِلْقَيُّومِ.
{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 49]، فَيُذَبِّحُونَ، وَمَا بَعْدَهُ تَفْسِيرٌ لِلسَّوْمِ.
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 59]، فَـ:
{خَلَقَهُ} وَمَا بَعْدَهُ تَفْسِيرٌ لِلْمَثَلِ.
{لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الْمُمْتَحِنَة: 1]، فَـ:
{تُلْقُونَ} تَفْسِيرٌ لِاتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ.
{الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدِ} الْآيَةَ [الْإِخْلَاص: 2، 3]، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ:
{لَمْ يَلِدْ} إِلَى آخِرِهِ تَفْسِيرٌ لِلصَّمَدِ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَمَتَى كَانْتِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرًا لَمْ يَحْسُنِ الْوَقْفُ عَلَى مَا قَبْلَهَا دُونَهَا؛ لِأَنَّ تَفْسِيرَ الشَّيْءِ لَاحِقٌ بِهِ وَمُتَمِّمٌ لَهُ، وَجَارٍ مَجْرَى بَعْضِ أَجْزَائِهِ.